المناسبات | |
|
|
12-02-2012, 09:50 PM | #1 |
|
التوكل على الله
بسم الله الرحمن الرحيم
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وقال الترمذي : حسن صحيح . هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هبيرة ، سمع أبا تميم الجيشاني ، سمع عمر بن الخطاب يحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو تميم وعبد الله بن هبيرة خرج لهما مسلم ، ووثقهما غير واحد ، وأبو تميم ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه . وقد روي هذا الحديث من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن في إسناده من لا يعرف حاله . قاله أبو حاتم الرازي . وهذا الحديث أصل في التوكل ، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق ، قال الله عز وجل : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 2 - 3 ] ، وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على أبي ذر ، وقال له : لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم يعني : لو حققوا التقوى والتوكل ؛ لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم . وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس : احفظ الله يحفظك . قال بعض السلف : بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه ، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره ، فكفاه منه ما أهمه ، ثم قرأ : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وحقيقة التوكل : هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وكلة الأمور كلها إليه ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه . قال سعيد بن جبير : التوكل جماع الإيمان . وقال وهب بن منبه : الغاية القصوى التوكل . قال الحسن : إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته . وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من سره أن يكون أقوى الناس ، فليتوكل على الله .وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه : اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك ، وأنه كان يقول : اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته . واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل ، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له ، والتوكل بالقلب عليه إيمان به ، كما قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم [ النساء : 71 ] ، وقال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ الأنفال : 60 ] ، وقال : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . وقال سهل التستري : من طعن في الحركة - يعني في السعي والكسب - فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل ، فقد طعن في الإيمان ، فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنته ، فمن عمل على حاله ، فلا يتركن سنته . ثم إن الأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام : أحدها : الطاعات التي أمر الله عباده بها ، وجعلها سببا ، للنجاة من النار ودخول الجنة ، فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه ، والاستعانة به عليه ، فإنه لا حول ولا قوة إلا به ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فمن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك ، استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعا وقدرا . قال يوسف بن أسباط : كان يقال : اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله ، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له . والثاني : ما أجرى الله العادة به في الدنيا ، وأمر عباده بتعاطيه ، كالأكل عند الجوع ، والشرب عند العطش ، والاستظلال من الحر ، والتدفؤ من البرد ، ونحو ذلك ، فهذا أيضا واجب على المرء تعاطي أسبابه ، ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله ، فهو مفرط يستحق العقوبة ، لكن الله سبحانه قد يقوي بعض عباده من ذلك على ما لا يقوى عليه غيره ، فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره فلا حرج عليه ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواصل في صيامه وينهى عن ذلك أصحابه ويقول لهم : إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقى ، وفي رواية : إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ، وفي رواية : إن لي مطعما يطعمني ، وساقيا يسقيني . والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوته ويغذيه بما يورده على قلبه من الفتوح القدسية ، والمنح الإلهية ، والمعارف الربانية التي تغنيه عن الطعام والشراببرهة من الدهر ، كما قال القائل : لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور تستضيء به وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم ، ولا يتضررون بذلك . وكان ابن الزبير يواصل ثمانية أيام . وكان أبو الجوزاء يواصل في صومه بين سبعة أيام ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها . وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكل شيئا غير أنه يشرب شربة حلوى . وكان حجاج بن فرافصة يبقى أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ، وكان بعضهم لا يبالي بالحر ولا بالبرد كما كان علي رضي الله عنه يلبس لباس الصيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له أن يذهب الله عنه الحر والبرد . فمن كان له قوة على مثل هذه الأمور ، فعمل بمقتضى قوته ولم يضعفه عن طاعة الله ، فلا حرج عليه ، ومن كلف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات ، فإنه ينكر عليه ذلك ، وكان السلف ينكرون على عبد الرحمن بن أبي نعم حيث كان يترك الأكل مدة حتى يعاد من ضعفه . القسم الثالث : ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب ، وقد يخرق العادة في ذلك لمن شاء من عباده ، وهو أنواع : منها ما يخرقه كثيرا ، ويغني عنه كثيرا من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثير من البلدان وسكان البوادي ونحوها . وقت المسير وفي أعقابها حادي إذا اشتكت من كلال السير أوعدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد وقد اختلف العلماء : هل الأفضل لمنأصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقق التوكل على الله ؟ وفيه قولان مشهوران ، وظاهر كلام أحمد أن التوكل لمن قوي عليه أفضل ، لما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب ثم قال : هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون . ومن رجح التداوي قال : إنه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يداوم عليه ، وهو لا يفعل إلا الأفضل ، وحمل الحديث على الرقى المكروهة التي يخشى منها الشرك بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه . ومنها ما يخرقه لقليل من العامة كحصول الرزق لمن ترك السعي في طلبه ، فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل ، وعلم من الله أن يخرق له العوائد ، ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ، ونحوه جاز له ترك الأسباب ، ولم ينكر عليه ذلك ، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدل على ذلك ، ويدل على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها ، فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب ، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ، ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم ، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم ، لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب ، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح ، وهو نوع من الطلب والسعي ، لكنه سعي يسير . وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه ، كما في حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه . وفي حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم . وقال عمر : بين العبد وبين رزقه حجاب ، فإن قنع ورضيت نفسه ، آتاه الله رزقه ، وإن اقتحم وهتك الحجاب ، لم يزد فوق رزقه . وقال بعض السلف : توكل تسق إليك الأرزاق بلا تعب ولا تكلف . قال سالم بن أبي الجعد : حدثت أن عيسى عليه السلام كان يقول : اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم ، وإياكم وفضول الدنيا ، فإن فضول الدنيا عند الله رجز ، هذه طير السماء تغدو وتروح ليس معها من أرزاقه شيء ، لا تحرث ولا تحصد الله يرزقها ، فإن قلتم : إن بطوننا أعظم من بطون الطير ، فهذه الوحوش من البقر والحمير وغيرها تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء لا تحرث ولا تحصد ، الله يرزقها ، خرجه ابن أبي الدنيا . وخرج بإسناده عن ابن عباس قال : كان عابد يتعبد في غار ، فكان غراب يأتيه كل يوم برغيف يجد فيه طعم كل شيء حتى مات ذلك العابد . وعن سعيد بن عبد العزيز ، عن بعض مشيخة دمشق ، قال : أقام إلياس هاربا من قومه في جبل عشرين ليلة ، - أو قال : أربعين - تأتيه الغربان برزقه . وقال سفيان الثوري : قرأ واصل الأحدب هذه الآية : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ، فقال : ألا إن رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة ، فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما كان اليوم الرابع ، إذ هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه ، فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما . ومن هذا الباب من قوي توكله على الله ووثوقه به ، فدخل المفاوز بغير زاد ، فإنه يجوز لمن هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة ، وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل عليه السلام ، حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع ، وترك عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، فلما تبعته هاجر وقالت له : إلى من تدعنا ؟ قال لها : إلى الله ، قالت : رضيت بالله ، وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه ، فقد يقذف الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحق ما يعلمون أنه حق ، ويثقون به . قال المروزي : قيل لأبي عبد الله : أي شيء صدق التوكل على الله ؟ قال : أن يتوكل على الله ، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيبه بشيء ، فإذا كان كذا ، كان الله يرزقه ، وكان متوكلا . قال : وذكرت لأبي عبد الله التوكل ، فأجازه لمن استعمل فيه الصدق . قال وسألت أبا عبد الله عن رجل جلس في بيته ، ويقول : أجلس وأصبر ولا أطلع على ذلك أحدا ، وهو يقدر أن يحترف ، قال : لو خرج فاحترف كان أحب إلي ، وإذا جلس خفت أن يخرجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسل إليه بشيء . قلت : فإذا كان يبعث إليه بشيء فلا يأخذ ؟ قال : هذا جيد . وقلت لأبي عبد الله إن رجلا بمكة قال : لا آكل شيئا حتى يطعموني ، ودخل في جبل أبي قبيس ، فجاء إليه رجلان وهو متزر بخرقة ، فألقيا إليه قميصا ، وأخذا بيديه ، فألبساه القميص ، ووضعا بين يديه شيئا ، فلم يأكل حتى وضعا مفتاحا من حديد في فيه ، وجعلا يدسان في فمه ، فضحك أبو عبد الله ، وجعل يعجب . وقلت لأبي عبد الله إن رجلا ترك البيع والشراء ، وجعل على نفسه أن لا يقع في يده ذهب ولا فضة ، وترك دوره لم يأمر فيها بشيء ، وكان يمر في الطريق ، فإذا رأى شيئا مطروحا ، أخذه مما قد ألقي . قال المروزي : فقلت للرجل : ما لك حجة على هذا غير أبي معاوية الأسود ، قال : بل أويس القرني ، كان يمر بالمزابل ، فيلتقط الرقاع ، قال : فصدقه أبو عبد الله وقال : قد شدد على نفسه . ثم قال : لقد جاءني البقلي ونحوه ، فقلت لهم : لو تعرضتم للعمل ، تشهرون أنفسكم ! قال : وأيش نبالي من الشهرة ؟ وروى أحمد بن الحسين بن حسان عن أحمد أنه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير زاد ، قال : إن كنت تطيق وإلا فلا إلا بزاد وراحلة ، لا تخاطر . قال أبو بكر الخلال : يعني إن أطاق وعلم أنه يقوى على ذلك ، ولا يسأل ولا تستشرف نفسه لأن يأخذ أو يعطى فيقبل ، فهو متوكل على الصدق ، وقد أجاز العلماء التوكل على الصدق . قال : وقد حج أبو عبد الله وكفاه في حجته أربعة عشر درهما . وسئل إسحاق بن راهويه : هل للرجل أن يدخل المفازة بغير زاد فقال : إن كان الرجل مثل عبد الله بن منير ، فله أن يدخل المفازة بغير زاد ، وإلا لم يكن له أن يدخل ، ومتى كان الرجل ضعيفا ، وخشي على نفسه أن لا يصبر ، أو يتعرض للسؤال ، أو أن يقع في الشك والسخط ، لم يجز له ترك الأسباب حينئذ ، وأنكر عليه غاية الإنكار كما أنكر الإمام أحمد وغيره على من ترك الكسب وعلى من دخل المفازة بغير زاد ، وخشي عليه التعرض للسؤال . وقد روي عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون فيحجون ، فيأتون مكة فيسألون الناس ، فأنزل الله هذه الآية : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة : 197 ] ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والنخعي وغير واحد من السلف ، فلا يرخص في ترك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية . وقد روي عن أحمد أنه سئل عن التوكل فقال : قطع الاستشراف باليأس من الخلق ، فسئل عن الحجة في ذلك ، فقال : قول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبريل وهو يرمى في النار ، فقال له : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . وظاهر كلام أحمد أن الكسب أفضل بكل حال ، فإنه سئل عمن يقعد ولا يكتسب ويقول : توكلت على الله ، فقال : ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله ، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب . وروى الخلال بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قيل له : لو أن رجلا قعد في بيته زعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه ، قال : إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنه قدوثق به ، لم يمنعه شيئا أراده ، لكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم ، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر ، ولم يقولوا : نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل ، وقال الله عز وجل : وابتغوا من فضل الله : [ الجمعة : 10 ] ، ولابد من طلب المعيشة . وقد روي عن بشر ما يشعر بخلاف هذا ، فروى أبو نعيم في " الحلية " أن بشرا سئل عن التوكل ، فقال : اضطراب بلا سكون ، وسكون بلا اضطراب ، فقال له السائل : فسره لنا حتى نفقه ، فقال بشر : اضطراب بلا سكون ، رجل يضطرب بجوارحه ، وقلبه ساكن إلى الله ، لا إلى عمله ، وسكون بلا اضطراب ، فرجل ساكن إلى الله بلا حركة ، وهذا عزيز ، وهو من صفات الأبدال . وبكل حال ، فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية ، فلابد له من معاناة الأسباب لاسيما من له عيال لا يصبرون ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت . وكان بشر يقول : لو كان لي عيال لعملت واكتسبت . وكذلك من ضيع بتركه الأسباب حقا له ، ولم يكن راضيا بفوات حقه ، فإن هذا عاجز مفرط ، وفي مثل هذا جاء قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك شيء ، فلا تقولن : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن اللو تفتح عمل الشيطان خرجه مسلم بمعناه من حديث أبي هريرة. وفي " سنن أبي داود " وعن عوف بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بين رجلين ، فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر ، فقل حسبي الله ونعم الوكيل . وخرج الترمذي من حديث أنس ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، أعقلها وأتوكل ، أو أطلقها وأتوكل ؟ قال : اعقلها وتوكل . وذكر عن يحيى القطان أنه قال : هو عندي حديث منكر ، وخرجه الطبراني من حديث عمرو بن أمية ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عابد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن التوكل بعد الكيس وهذا مرسل ، ومعناه أن الإنسان يأخذ بالكيس والسعي في الأسباب المباحة ، ويتوكل على الله بعد سعيه ، وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون جمعهما أفضل . قال معاوية بن قرة : لقي عمر بن الخطاب ناسا من أهل اليمن ، فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ، قال : بل أنتم المتأكلون ، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ، ويتوكل على الله عز وجل . قال الخلال : أخبرنا محمد بن أحمد بن منصور قال : سأل المازني بشر بنالحارث عن التوكل ، فقال : المتوكل لا يتوكل على الله ليكفى ، ولو حلت هذه القصة في قلوب المتوكلة ، لضجوا إلى الله بالندم والتوبة ، ولكن المتوكل يحل بقلبه الكفاية من الله تبارك وتعالى فيصدق الله عز وجل فيما ضمن . ومعنى هذا الكلام أن المتوكل على الله حق التوكل لا يأتي بالتوكل ، ويجعله سببا لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره ، فإنه لو فعل ذلك ، لكان كمن أتى بسائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها ، وهذا نوع نقص في تحقيق التوكل . وإنما المتوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن لعبده رزقه وكفايته ، فيصدق الله فيما ضمنه ، ويثق بقلبه ، ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به ، والرزق مقسوم لكل أحد من بر وفاجر ، ومؤمن وكافر ، كما قال تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] ، هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق ، قال تعالى : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم [ العنكبوت : 60 ] . فما دام العبد حيا ، فرزقه على الله ، وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب ، فمن توكل على الله لطلب الرزق ، فقد جعل التوكل سببا وكسبا ، ومن توكل عليه لثقته بضمانه ، فقد توكل عليه ثقة به وتصديقا ، وما أحسن قول مثنى الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد : لا تكونوا بالمضمون مهتمين ، فتكونوا للضامن متهمين ، وبرزقه غير راضين . واعلم أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء ، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له ، ويختاره فقد حقق التوكل عليه ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما يفسرون التوكل على الله بالرضا. قال ابن أبي الدنيا : بلغني عن بعض الحكماء قال : التوكل على ثلاث درجات : أولها : ترك الشكاية ، والثانية : الرضا ، والثالثة : المحبة ، فترك الشكاية درجة الصبر ، والرضا سكون القلب بما قسم الله له ، وهي أرفع من الأولى ، والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به ، فالأولى للزاهدين ، والثانية للصادقين ، والثالثة للمرسلين . انتهى . فالمتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره ، فهو صابر ، وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه فهو الراضي ، وإن لم يكن له اختيار بالكلية ولا رضا إلا فيما يقدر له ، فهو درجة المحبين العارفين ، كما كان عمر بن عبد العزيز : يقول أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر . اثبت وجودك .. تقرأ وترحل شارك معنا برد أو بموضوع |
12-02-2012, 11:49 PM | #2 |
|
بارك الله فيك اخي الفاضل
على مشاركتك القيمة إن التوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المخلصين، أمر الله تعالى به أنبيائه المرسلين، وأوليائه المؤمنين، قال رب العالمين: * {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] جزاك الله خيرا و في انتظار مشاركاتك القيمة |
من مواضيعي في الملتقى
|
|
04-05-2019, 01:07 PM | #3 | |
مشرفة ملتقى الأسرة المسلمة
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا |
|
من مواضيعي في الملتقى
|
||
|
|
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
** التوكل النافع ** | AL FAJR | ملتقى الحوار الإسلامي العام | 11 | 03-05-2019 12:24 PM |
فنون التوكل | almojahed | ملتقى الآداب و الأحكام الفقهية | 6 | 10-08-2018 12:01 PM |
خطبة: من آذى رسول الله فعليه الغضب واللعنة من الله. الشيخ: فؤاد أبو سعيد حفظه الله | أسامة خضر | قسم فضيلة الشيخ فؤاد ابو سعيد حفظه الله | 3 | 10-01-2012 09:29 PM |
الفرق بين التوكل والتواكل | آلغموض | ملتقى الحوار الإسلامي العام | 5 | 09-26-2012 09:27 PM |
التوكل على الله وحده لا على الأموال والأولاد والمناصب والأولياء | almojahed | ملتقى الأسرة المسلمة | 10 | 04-03-2012 01:30 AM |
|