صحبة سورة هود
تكلمنا عن سورة يونس التي نزلت في ظروف صعبة مر بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ظروف الشِعَب، ظروف الاستضعاف، ظروف المقاطعة، ظروف الحزن الشديد الذي مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها ووفاة عمه أبو طالب وهذه الآلآم التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم وسورة اليوم سورة ثانية باسم نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً نزلت أيضاً في نفس الفترة الزمنية والحقبة التي نزلت فيها سورة يونس.
سورة هود هي السورة الثانية من سور ثلاث نزلت متتالية بأسماء أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً (يونس، هود، يوسف). هذه السور الثلاث نزلت في حقبة زمنية واحدة من السنة الثامنة إلى السنة الحادية عشر من البعثة في مكة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في أحوال قاسية جداً من الاستضعاف، لكن سورة هود بالذات كان لها أثر على النبي صلى الله عليه وسلم مختلف، أثر سورة هود على النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عن بعض الصحابة لما سألوه: قالوا: يا رسولَ اللهِ! قد شِبْتَ؟! قال: شيَّبتني هودٌ وأخواتُها. وفي روايةٍ: شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب وفي رواية: شيَّبتني هودٌ، والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعمَّ يتساءلونَ، وإذا الشمسُ كُوِّرتْ. وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله
ما الذي يجعل الإنسان يشيب قبل الأوان؟ التفت الصحابة إلى أن هنالك أمر مختلف فقد يشيب الإنسان وهو شاب لأن الشيب ليس له ضابط عمري معين ولكن يبدو والله أعلم أنه حدث فارق مفاجئ لاحظه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمّا حصل، شبت يا رسول الله! فقال: شيبتني هود. وهذا يدلنا على علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل، وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع القرآن؟ القضية أننا لما نقرأ في كتاب الله عز وجل لا تقرأ كلاماً نظرياً جامداً، النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش مع كتاب الله كان يتأمل كتاب الله وكان يتأمل ما فيه على أنه واقع حادث فكان يتفاعل معه لدرجه تجعله مثل هذا الأثر. فما الذي يجعل الإنسان يشيب قبل المشيب؟ الجواب في آية وهي قول الله عز وجل (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) المزمل) وهو يوم القيامة، هذا يدلنا على أن الشيب قبل المشيب قد يكون بسبب انفعال عنيف جداً، فزع ما، أمر أثار شيئاً في نفسه فظهر ذلك على حاله وهو ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم. ونعود للسؤال: ما الذي يجعل في سورة هود هذا الفارق هي وأخواتها يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول أن هذه كانت هي السورة التي سببت هذا التغير الذي لاحظه أصحابه رضي الله عنه؟ الجواب تكلم فيه العلماء كثيراً والمسألة فيه أقوال:
بعضهم قال شيبه في هود مصارع الأمم لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سورة هود مصير كثير من الأمم التي كذّبت وذكرنا أن سورة هود نزلت في وقت الأمة التي بُعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم لبلاغها مكذّبة، أمة كذبت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وآذته وقاطعته وحاصرته في شعب أبي طالب وذكرنا في سورة يونس ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة. فتأتي آيات سورة هود يسمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم عما لقيه القوم الذين أشركوا، القوم الذين كذبوا لدرجة أن قوم لوط كان عذابهم (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)) ويتبعها قول الله تعالى (مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) هذه الآية للظالمين وقد لا نتأثر نحن بهذه الآية لأنه للأسف كثير منا لا يحمل الهمّ الذي كان يحمله النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، فقد كان صلى الله عليه وسلم كان يحمل في صدره همّ هداية الأمة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) الكهف) النبي صلى الله عليه وسلم يريد لهذه الأمة الهداية لا يريد لها العذاب، فلما يسمع آيات كهذه:
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) ضع نفسك مكان النبي صلى الله عليه وسلم وأنت حريص على الأمة وحريص على هداها وتسمع (أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20)) فبعض العلماء قالوا أن هذا هو السبب الذي شيّب النبي صلى الله عليه وسلم، أنباء القرى (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) أنت تعلم يا محمد صلى الله عليه وسلم ما حدث للأمم من قبلك وهذه الأمة ما تفعله اليوم ليست ببعيدة عما هلك به الأمم التي سبقتهم. ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم الآية التالية (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) هل أهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم (مكة) مصلحون؟ بالعكس، كانوا مفسدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب الأمة وهو حريص على الأمة وخائف على الأمة كما خشي إبراهيم عليه السلام على أمته وظهر عليه هذا الأثر لما عرف أن الملائكة الذين نكرهم عليه الصلاة ما جاؤوا إلا بعذاب قال الله عز وجل (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (70)) ثم قال (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)) لم يكن يريد أن يعذّبوا لأنه حريص على الأمة حريص على ألا يعذّب أحد.