إجابة السؤال الثالث:
بخصوص تعذيب الملائكة للأموات في القبور ، وكيف يُعَذَبون وهو لم يحاسبوا بعد ، ألا يتعارض هذا مع رحمة أرحم الراحمين ؟
أقول من تمام عدل الله ورحمته سبحانه بعباده أنه حرم الظلم على نفسه وجعل محرما بين خلقه ، والظلم الذي حرمه الله على نفسه كما قال شراح الحديث أن يدخل الطائعين النار والعاصين الجنة ، وهو القائل سبحانه { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ص(28)
مع العلم أن الله لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون وهو سبحانه الفعال لما يريد حيث قال عليه الصلاة والسلام " لو أن الله عذب أهل سمواته و أهل أرضه لعذبهم و هو غير ظالم لهم و لو رحمهم لكانت رحمته لهم خير من أعمالهم " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن أبي بن كعب وزيد بن ثابت وحذيفة وابن مسعود وصححه الألباني في صحيح الجامع
ورغم ذلك فالله سبحانه وتعالى رحيم بخلقه ، والرحمة نوعان رحمة عامة ، ورحمة خاصة ، فالرحمة العامة هي في الدنيا لجميع الخلق ولولا هذه الرحمة ما سقى كافرا منها شربة ماء ، والرحمة الخاصة هي تبدأ عند مجيء ملك الموت لعباده المؤمنين أما قال أرحم الراحمين في الحديث القدسي " وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تردُّدي عَنْ نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته " رواه البخاري عن أبي هريرة
والقائل أيضا في محكم التنزيل { إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } الأعراف (56)
ولهذه الرحمة جعل الله تعالى محمصات للذنوب والسيئات لعباده المذنبين تكون لهم كفارات في الحياة الدنيا وفي الممات
حيث من المعلوم أن أحدا لا يدخل الجنة وعليه ذنب واحد ، ومن المعلوم أيضا أنه ما منا من أحد إلا وهو مرتكب ويرتكب السيئات كل يوم فضلاً عن كل لحظة ولا معصوم إلا من عصمه الله تعالى ، وكما قال عليه الصلاة والسلام " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " صحيح الجامع .
*- السؤال الآن ما الذي يُذهب تلك السيئات ويمحها ؟
جاء في شرح العقيدة الطحاوية أن الممحصات لتلك الذنوب هن عشر وقال : فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب ، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة :
السبب الأول : التوبة وهذه في الدنيا وقبل الغرغرة، قال تعالى : {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً }مريم60 . وقال أيضاً {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة160
والتوبة النصوح ، وهي الخالصة ، لا يختص بها ذنب دون ذنب ، قال تعالى : { قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وهذا لمن تاب ، ولهذا قال : { لَا تَقْنَطُوا } وقال بعدها : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } ، الآية .
السبب الثاني : الاستغفار وهذه في الدنيا أيضا ، قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
السبب الثالث : الحسنات فإن الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها ، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته للحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل " إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك في كتابه فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة و في رواية أو محاها ولا يهلك على الله إلا هالك رواه البخاري ومسلم . وقال تعالى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }. وقال صلى الله عليه وسلم : « وأتبع السيئة الحسنة تمحها " صحيح الجامع.
السبب الرابع : المصائب الدنيوية ، قال صلى الله عليه وسلم : « ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غم ولا هم ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه » . وجاء عن أبي هريرة قال لما نزل { من يعمل سوءا يجز به } شق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قاربوا وسددوا وفي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها " صحيح الترمذي
وجاء أيضاً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله " كيف الصلاح بعد هذه الآية ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به الآية وكل شيء عملناه جزينا به فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك اللأواء قال فقلت بلى قال هو ما تجزون به " صحيح الترغيب
و جاء في الصحيحة أيضا [ ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله عنه من سيئاته ] .
فالمصائب نفسها ، مكفرة ، وبالصبر عليها يثاب العبد ، وبالتسخط يأثم والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة ، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد ، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه ، ويكفر ذنبه بها ، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله ، والصبر والسخط من فعله – أي فعل العبد - ، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد ، بل هدية من الغير ، أو فضل من الله من غير سبب ، قال تعالى : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }. فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم . – هذه الأربعة في الدنيا -
السبب الخامس أي لتخفيف العذاب عن العبد المسلم : عذاب القبر . عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السنة وَالْجَمَاعَة ، تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُفْرَدَة عَنِ الْبَدَنِ وَمُتَّصِلَة به .
وعَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَه نَصِيبُه منه ، قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ ، أَكَلَتْه السِّبَاعُ أَوِ احْتَرَقَ حتى صَارَ رَمَادًا وَنُسِفَ في الْهَوَاءِ ، أَوْ صُلِبَ أَوْ غَرِقَ في الْبَحْرِ - وَصَلَ إلى رُوحِه وَبَدَنِه مِنَ الْعَذَابِ مَا يَصِلُ إلى الْمَقْبُورِ
*- وَهَلْ يَدُومُ عَذَابُ الْقَبْرِ أَوْ يَنْقَطِعُ ؟ جَوَابُه أنه نَوْعَانِ : منه مَا هُوَ دَائِمٌ ، كَمَا قَالَ تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } . وَكَذَا في حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ في قِصَّة الْكَافِرِ : « ثُمَّ يُفْتَحُ له بَابٌ إلى النَّارِ فَيَنْظُرُ إلى مَقْعَدِه فِيهَا حتى تَقُومَ السَّاعَة » ، رواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ في بَعْضِ طُرُقِه .
وَالنَّوْعُ الثاني : أنه مُدَّة ثُمَّ يَنْقَطِعُ ، وَهُوَ عَذَابُ بَعْضِ الْعُصَاة [ الَّذِينَ ] خَفَّتْ جَرَائِمُهُمْ ، فَيُعَذَّبُ بِحَسَبِ جُرْمِه ، ثُمَّ يُخَفَّفُ عنه ، كَمَا تَقَدَّمَ ذكره في الْمُمَحِّصَاتِ الْعَشْرة. –
مثاله قال عليه الصلاة والسلام " " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة ، فلم يزل يسأل و يدعو حتى صارت جلدة واحدة ، فجلد جلدة واحدة ، فامتلأ قبره عليه نارا ، فلما ارتفع عنه و أفاق قال : على ما جلدتموني ؟ قالوا : إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور ، و مررت على مظلوم فلم تنصره " .
أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " عن ابن مسعود قال الألباني صحيح انظر" السلسلة الصحيحة "
تبين لنا من هذا الحديث أنه لولا رحمة الله لضرب المائة جلدة ولكن بلطف الله عفا عن التسع والتسعين مع سقوطه عنه يوم القيامة
فعذاب القبر للمذنبين من المسلمين تخفيف عنهم وتكفير لما سيكون يوم البعث والنشور قبل أن يحاسبهم رب العالمين
.السبب السادس : الصلاة على الميت وهذا أيضا من رحمة الله بعباده المسلمين للحديث قال عليه الصلاة والسلام " لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغوا أن يكونوا مائة فما
فوقها فيشفعوا له إلا شفعوا فيه
* - السبب السابع : ما يهدى إليه بعد الموت ، من ثواب صدقة أو قراءة أو حج ، ونحو ذلك ، وهذا ليس باطلاقه وإنما ما اندرج تحت هذين الحديثين قال عليه الصلاة والسلام " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وقال أيضاً " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته " صحيح الترغيب
*- هذه الثلاثة في القبر -*
السبب الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده . منها ، قال عليه الصلاة والسلام " تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه ومنهم من يبلغ نصف الساق ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ إلى العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة ومنهم من يبلغ منكبيه ومنهم من يبلغ عنقه ومنهم من يبلغ وسط فيه وأشار بيده ألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده إشارة فأمر يده فوق رأسه من غير أن يصيب الرأس دور راحتيه يمينا وشمالا " صحيح الترغيب
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام " النياحة على الميت من أمر الجاهلية وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يغلى عليها بدروع من لهب النار" صحيح الجامع . ومنها : عقاب آكل الربى قال عليه الصلاة والسلام " إياك والذنوب التي لا تغفر الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة وآكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ثم قرأ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان "
ومنها : مانع الزكاة ، قال عليه الصلاة والسلام " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " صحيح الجامع 0 وهكذا سائر الأعمال
السبب التاسع : القنطرة بين الجنة والنار
القنطرة هي عبارة عن جسر مقوس ، ثبت في الصحيحين : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة " .
السبب العاشر : شفاعة الشافعين باذن رب العالمين
وأنا أزيد سببا آخرا وهو عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة ، كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } .
قال عليه الصلاة والسلام " فَيَقُولُ الله : شَفَعَتِ المَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ المُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَماً فَيُلْقِيهِمْ في نَهْرٍ في أَفْوَاهِ الجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا يَخْرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ أَلاَ تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الحَجَرِ أَوِ الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرَ وَأُخَيْضِرَ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ في رِقَابِهِمُ الخَوَاتِيمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ هؤُلاَءِ عُتَقَاءُ الله مِنَ النَّارِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ ، فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هذَا فَيَقُولُونَ : يَارَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هذَا فَيَقُولُ رِضَايَ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً ) ) ( حم ق ) عن أبي سعيد .
هذا والله أعلى وأعلم ، والله ولي التوفيق
أجاب عليه و حرره فضيلة الشيخ احمد رزوق حفظه الله تعالى و جزاه عنا خير الجزاء
|