سقوط دولة الفاطميين
حين تستعين بعدوك التاريخي وتفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ..فلا ضير في أن تموت .. فأنت ـ في البدء ـ إنسان منتحر .. !!
والتسامح قضية كبرى من قضايا حضارتنا ، ومبدأ عظيم من مبادئ إسلامنا، لكن هذا التسامح ـ بترك الناس يحيون وفق معتقداتهم ـ شيء ، وتسليمك مقاليد الأمورلهذا الذي ينتمي روحيا إلى أعدائك ، ويشعر بتعاطف نحو من تحارب ، وتقل حضانته ـمهما يكن ـ عن أخيك المسلم .. تسليمك هذا شيء آخر بعيد عن التسامح .. إنه نوع من الغفلة والحماقة .. أو بتعبير آخر نوع من الانتحار!!
وفي الدولة الفاطمية التي قامت في المغرب العربي سنة 298هـ وانتقلت قيادتها إلى مصر سنة 362هـ .. كانت ظاهرة الاعتماد على اليهود والنصارى سمة من سمات الحكم في الدولة ، فمن هؤلاء كان كثير من الوزراء وجباة الضرائب والزكاة،والمستشارين في شؤون السياسة والاقتصاد والعلم ، ومنهم الأطباء والثقات لدى الحكام،وإليهم تحال معظم الأعمال الجسام .
ولقد أحدثت هذه الظروف انفصاما بين الفاطميين والشعب ـ إلى جانب عوامل أخرى هامة ـ حتى لقد كان الناس يستجيرون من تسلط اليهود في البلاد فلا يجارون، وقد ظهرت في ذلك أشعار كثيرة معروفة ، بل إن الناس قد اضطروا إلى أن يلفتوا نظرالعزيز ( الحاكم الثاني في مصر ) إلى هذه الظاهرة التي كان يبدي تغافلا عنها ،وقد وضعوا له صورة من الورق لرجل يطلب حاجة أثناء مرور موكبه ..
وقد مد الرجل يدا بورقة مكتوب فيها : " بالذي أعز اليهود بمنشا، وأعز النصارى بعيسى ، وأذل المسلمين بك إلا ما قضيت ظلامتي " وقد لمعت في سماء الدولة الفاطمية أسماء كثيرةمن هؤلاء ، فقد لمع يعقوب بن كلس ( وسنورد تفصيلا عنه بعد ) ، ومنصور بن مقشرالنصراني الطبيب صاحب الكلمة السامية في قصر العزيز ، وعيسى بن نسطورس الكاتب ،والمنجم ابن علي عيسى ، ويجين بن وشم الكواهي ، ومنشا اليهودي الذي كان نائب العزيزفي الشام .. وغيرهم كثير . وعندما وصل الحاكم بأمر الله إلى الحكم ..
وهورجل أجمع المؤرخون على اضطراب عقله حتى أنه كان يأمر بالشيء وينهى عنه ـ أمر بهدم الكنائس التي بمصر ، لكنه سرعان ما عاد فأمر ببنائها ، وأطلق من جديد يد اليهود في البلاد ، واستمر أمر اليهود والنصارى في عهد الظاهر ، وعندما قدر للحاكم الفاطمي السادس في مصر " المستنصر بن علي الظاهر " أن يصل إلى الحكم سنة 427هـ كانت الحالة قد بلغت قمتها من التدهور . وفي ظل سياسة اليهود وتحكمهم في مرافق البلاد أصبح قصر هذا الحاكم زاخرا بالدسائس التي يحيكها القواد ورجال البلاط ، ويقف وراء كل هؤلاء هذه الطوائف يديرون المعارك لصالحهم، ويرقبون الفائز،ويفسحون في شقة الخلاف.
وقد ذاقت البلاد من الجوع والبؤس والنزاع على السلطة ما أحالها إلى فوضى لم يشهد تاريخ مصر مثلها . وقد صور المقريزي هذه الحالة في قوله : " لمتجد البلاد صلاحا ولا استقام لها أمر ، وتناقضت عليها أمورها ، ولم يستقر عليها وزير تحمد طريقته .. " على آخر كلامه الطويل الذي قال في آخره بأنه : "تلاشت الأمور واضمحل الملك " وقد فكر ابن حمدان زعيم الأتراك في مصر في تغييرالخلافة الفاطمية إلى العباسية ، وكانت حال البلاد والفاطميين تسمح بتحقيق كل ذلك.. لولا سوء سياسة ابن حمدان لأتباعه وانقلابهم عليه .. وفي هذه السنوات أكل الناس بعضهم بعضا ، وبيع الرغيف بمائة دينار ، وأكل الناس لحوم الكلاب والحمير، ولم ينته الأمر إلا بسقوط الدولة الفاطمية السقوط الحقيقي حين ترك حكامها السلطة تماما وقبعوا في قصورهم ، وحمل أمانة الحكم الوزراء العظام الذين كان أولهم وأعظمهم" بدر الجمالي " .
وقد أصبح بيد هؤلاء الوزراء كل مقاليد الأمور حتى أنهم لم يدعواللخلافة ولا للخليفة في أغلب الأوقات إلا بالاسم ، وكانوا يتحكمون في اختيارالخلفاء وفي عزلهم ، والمؤرخون المنصفون يعتبرون سقوط الدولة هو تاريخ تولية بدرالجمالي أمور مصر سنة 464هـ .. ولم يفعل صلاح الدين الأيوبي حين أسقط الخطبة للفاطميين دون أية معارضة أو مقاومة حقيقية سنة 567هـ ـ إلا إسقاط عهد الوزراءالعظام الذين كان آخرهم شاور .. أما الفاطميون فقد سقطوا منذ مدة طويلة أي قبلذلك بقرن .
ومن الغريب أن العزيز الفاطمي .. بلغ من حبه لوزيره يعقوب بنكلس اليهودي أن ترك له أمر الدعوة إلى المذهب الفاطمي ، وكان هذا الأخير يجلس بنفسهيعلم الناس فقه الطائفة الإسماعيلية ، وقد ألف نفسه كتابا يتضمن الفقه على ما سمعه من المعز والعزيز الذي قال له : " وددت لو أنك تباع فأبتاعك بملكي " ولم يدركالعزيز أن ملكه كان قد بيع فعلا بهذه السياسة التي جعلت عهد الفاطميين في مصر عهد شدة وتناطح وبؤس . ووقف هؤلاء يستثمرون كل هذا ويتملقون الغرائز .. وبقيتعبرة التاريخ عبرة للذين يطلبون النصر من الأعداء ، والذين يطلبون الحياة من السم ،والذين ينسون " الاستراتيجية الإسلامية العالية "
سقوط دولة صلاح الدين
من أسرة كردية من أذربيجان هاجرت إلى العراق ، انبثق فجر قائد هذهالدولة ـ التي لعبت بقيادته ـ دورا من أروع أدوار تاريخنا .
ولعل " صلاح الدين الأيوبي " أروع بطل قدمته الحضارة الإسلاميةعلى امتداد القرنين السادس والسابع للهجرة ، وبه أفلت المسلمون وأفلتت الحضارةالإسلامية من غزو عالمي صليبي كاسح كان يقوده أخبث صليبي عرفته أوروبا الهمجية فيعصورها المظلمة " بطرس الناسك " .
وقد كان لاشتراك صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه في الحملاتالعسكرية التي كان يرسلها نور الدين إلى مصر ، أثر كبير في تعميق خبرته وإبرازمواهبه ، وما إن مات عمه أسد الدين سنة 564 هـ حتى أسند إليه الخليفة الفاطمي فيمصر " العاضد " الوزارة ، ولقبه بالملك الناصر ، فظفر صلاح الدين بحب الشعبواحترامه نظرا لحزمه وعدالته.
ولم تأت سنة 567هـ أي بعد توليته الوزارة بثلاث سنوات ـ حتى ماتالخليفة العاضد " فطويت صفحة الخلافة الفاطمية في مصر وغيرها ، وعادت مصر ـالعاصمة الفاطمية الأولى ـ عاصمة كبرى للعباسيين تحت قيادة الدولة الأيوبية وقائدهاصلاح الدين الأيوبي .
كان أمام صلاح الدين تحديات داخلية في مصر ، فإن الآثار الفكريةالتي خلفتها الدولة الفاطمية كانت تحتاج إلى إعلان ثورة فكرية .
وكان أمام صلاح الدين خلل اقتصادي منذ أيام المجاعة العظمى ..أيام " المستنصر " وما جر على مصر والعالم الإسلامي الحكم الفاطمي من ويلاتتسلط الوزراء العظام منذ " بدر الجمالي " ( 464 هـ ) إلى شاور وضرغام .
وكان بإمكان صلاح الدين ، لو أنه قائد مخادع ، أن يعلن ثورةاقتصادية واجتماعية ، ويلهي الناس عن حقيقة الخطر الصليبي الذي يواجهونه !!
لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع ، بحيث يشغل الناس لحسابالأعداء عن معركتهم الحقيقية بمعارك جانبية .
وكان بإمكان صلاح الدين أن يبحث عن " اتفاقية جلاء " معالصليبين أو عن " حل سلمي استسلامي " حتى تنتهي فترة تثبيته في الحكم ، ثم يعلنللناس أن الحكام السابقين يتحملون المسؤولية ، وأنه جاء إلى الحكم بعد فوات الأوان، وبالتالي يخضع العالم الإسلامي لهذا الغزو الخبيث !!
لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع .
وفي مواجهة غزو صليبي عالمي أعلن صلاح الدين ثورة إسلامية عالمية ،وأصبح هو رمزها ومحورها ، وكان هذا هو الطريق الوحيد ولا يزال هو الطريق .
لقد جاء توحيد العالم الإسلامي جنبا إلى جنب مع الجهاد المستمر ضدالصليبية العالمية الحاقدة ، ولم يكن صلاح الدين بالأبله الذي يبحث عن أي حل بديلللجهاد، فوسط الحروب التي تهز الكيان المادي والمعنوي والفكري للأمة لا يمكن إنجاحأي هدف بعيد عن الهدف الأول ، وكل الأهداف تأتي من خلال هذا الهدف، لأن الجماهيرتعتقد أنها عملية تلهية وخداع .. وقد دخل صلاح الدين عديدا من المعارك قبل حطينالشهيرة .. كموقعة " مرج عيون " جنوب لبنان سنة 575 هـ وموقعة " مدينةصفد " في السنة نفسها .
وعلى امتداد كل السنوات كانت هناك معارك لا تحصى بين صلاح الدينوالصليبين .
قد شن صلاح الدين على الصليبيين حروبا واسعة من أجل استخلاص إماراتإسلامية استولى عليها الصليبيون وأسسوا فيها إمارات صليبية مضى على استيلائهم عليهاقريبا من تسعين سنة كأنطاكية وطرسوس والرها وبيت المقدس وطرابلس .. لم يكن صلاحالدين ساذجا ضعيفا متهاونا فيدعو إلى حدود ما قبل " معركة " ما ، أو .. "اتفاقية " ما .. !!
لقد كان الحق الإسلامي في عقيدته مقدسا لا يقبل التفريط والمساومة!!
هكذا كان هذا الرجل العظيم . صلاح الدين الذي انتصر في حطينواسترد بيت المقدس !!
وبوفاة صلاح الدين بقيت الدولة الأيوبية التي تنسب إليه تؤدي دورهاقريبا من ستين سنة .
لكن هؤلاء الحكام كانوا أقل من صلاح الدين ، فلم يستطيعوا لعب الدورالذي لعبه .. وكان بعضهم متخاذلا يؤمن بإمكانية المفاوضات مع العدو الصليبيالتاريخي ، كالملك الكامل الذي استجلب سخط العالم الإسلامي كله ، حين قام بتسليمالقدس للصليبيين ، وقد تمكن الصالح أيوب الذي جاء بعده من استردادها .
ومن الغريب أن هذه الدولة التي بدأت بعظيم من أعظم الرجال هو صلاحالدين .. وانتهت بملك عظيم كذلك هو الملك الصالح ، كانت نهايتها على يد امرأةمملوكة من هؤلاء اللائى يظهرن في عصور الضعف ، ويساعدن على سقوط الدول .
إنها واحدة من هؤلاء النسوة القويات اللائى يجدن اللعب في خفاءالقصور ودستورها ، متجردات من كل خصائص الأنوثة الحقيقية ، مستغلات مظاهر هذهالأنوثة في القتل والتدمير .. إنها شجرة الدر .. التي قتلت ابن زوجها "توران شاه " لكي تنفرد بالحكم ، ثم شربت من نفس الكأس حين قتلها المماليك أخذابثأر زوجها منها .
وعجبا .. لقد قضي على الدولة التي قامت على أكتافها واحد منأعظم الرجال على يد مملوكة ـ مهما اختلفنا حولها ـ فإنها كذلك من أبرز نساء العالم.
تابع