سقوط السامانيين في فارس
كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئنكان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ،وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم .. لئن كان هذا قد تم لهم .. فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم ..وأصبح الشذوذ هو القاعدة .. وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية.. ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كانيمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية .
فحيثما حل العنف واللامشروعية .. وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة .. فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية ..وقدرتها على العطاء الحضاري . أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أومصطنع .
وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين ، فقام الصفاريون عليهم . واستولوا على حكم خراسان سنة 261هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء " بلخ "قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر. ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهرمن 874 هـ إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين : الطاهريينوالصفاريين .. وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هوإسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة.
وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ( 913 - 943 ) وهو الرابع منملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمانوجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد .
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا .. وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها .. وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة ... ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها .
على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر .
وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخليبين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي .
بالإضافة إلى هذا وذاك .. ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم .. ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة.. تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين .
وقد ظهرت القبائل التركية البدوية .. وارتفع نجمها في الدولة ،وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي .. وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها .
وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان " الايلاق "الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين " بخارى " ثم لم يلبثوا - بعدتسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية !!.
ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثهاالخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308هـ بعد أن عاشت في ظل حماية ( ضعف الخلافة ) قرنا من الزمان !!
البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون !!
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا ..كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل ..وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ .
إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجردالاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية .. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير ... لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة .. لقد كان احتواء لها أو بتعبيرآخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها .. ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء .. يفعل باسمهم كل شيءويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ..وليس هذا وحسب .. بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء .. وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد..
وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها .
وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرونآخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة .
فلما وصل ( أحمد بن بويه ) المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ( 334 - 447 ) إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة (المستكفي ) ولقبه معز الدولة .. وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب .
لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ،بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنهطارئ لا بد أن يزول .
لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة .. وقيادة المسلمين .. وقدفهم الخلفاء أنفسهم هذا ... فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية .
بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي .. فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمدبن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب .
ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي .. ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له!!
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال.
وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة .
وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة .. أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيضالانقسام والتناطح الداخلي.. وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيءالكثير .
إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها ... هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية .
وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا .
لكن تاريخنا .. الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم ...
هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل .. وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد .. أعاد للخلافة شبابها ،ونجح قائد الأتراك السلاجقة " طغرلبك " سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين .
تابع